غريب هو ما جمع بيني و بين ذلك الشاب من علاقة لا أعرف الان تحت اي من المسميات أستطيع أن أضعها، أهي نزوة؟… أم فراغ ثنائي قد وحد بين كلينا؟.. أم هي كما قد كنت أسميتها سابقا حب؟… أم هي كل هؤلاء مجتمعين؟…
انني لا أزال أذكر ذلك اليوم، صدفة القدر تلك التي وضعته في طريقي ووضعتني في طريقه..
كان ذلك في أحد أيام الشتاء، كنت امشي على رصيف احد الشوارع العتيقة الخالية، و كان كل شيء يوحي هناك بالهدوء، على الرغم من صوت المطر و صوت اغنية كانت تنبعث من احدى المحلات التجارية، أعجبتني كلماتها كما اعجبني لحنها الشجي، و ذلك التوافق بين صوتها و صوت المطر الذي زاد من جماية ذلك الهدوء، و قضى على صمت تام...
أردت الدخول الى ذلك المحل لأسأل صاحبه عن تلك الأغنية، لكنني لم أستطع، فلم يكن من اللائق أن ادخل خصيصا لسؤال كهذا.. و لهذا فقدت تعمدت المشي ببطء حتى أستطيع سماعها كاملة..
أذكر أنني سرحت و أن ذهني قد شرد قليلا، و لم أفق من شرودي الا بعد اصطدامي بشاب صدمة قوية كانت كافية كافية لتردني الى صوابي...
أعتذرت له فقد كنت أنا المخطئة، ولكنني تفاجأت بانتهاء تلك الأغنية، الشيء الذي جعلني لاأستطيع مقاومة شعور بالحقد قد تولد داخلي تجاه ذلك الشاب على الرغم من جهلي اياه، و على الرغم من أنني أنا التي كنت المخطئة...
و لم يكن لي لأتوقع أنني سأسمع تلك الأغنية للمرة الثانية، بحضور اخر للشاب نفسه و بمشاعر تختلف تماما عن المشاعر التي أحملها الان...
تابعت طريقي إلى المنزل، وكلمة امنزل تعني لي الوحدة و الملل، فقد كنا اثنتين فقط انا و أمي، بقينا وحيدتين بعد زواج اختي الكبرى، و سفر أخي لإتمام دراسته بالخارج، و وفاة والدي قبل ثلاثة أعوام...
قبلت يد أمي، و طلبت منها الدعاء لي و لأخوتي، و دخلت الى غرفتي...
غرفتي التي لا أعتبرها سوى صندوق مغلق على بعض الأحلام و بعض الأمال و الكثير من الالام... هذه هي غرفتي بجدرانها الكئيبة الموحشة، ليست الا قبرا متواضعا أدفن فيه جثث أوهامي و بقاي خيباتي...
كنت في طريق العودة من الجامعة عندما أن تصدمني سيارة أثناء قطعي للشارع، خرج السائق فزعا يعتذر لي، و لم يكن من الصعب عي أن أميز فيه الشاب الذي اصدمت به قبل أيام، و استطعت ان أخمن انه لم يذكرني.
... ركب السيارة و هو يعتذر لي..
في ذلك اليوم كنت قد انهيت امتحاني الأخير لذلك العام، و بهذا تكون العطلة قد بدأت...
اعتدت في لأيام العطل أن أذهب الى الحديقة التي تقع في الشرع الخلفي لشارعنا لأكتب مذكراتي.
كنت أشعر بأن الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أبوح له بأسراري ليس إلا أوراق بيضاء مجوعة بين دفتين لونهما ازرق سماوي، تنتظر أن تدب بها الحياة ببعض البسمات و الكثير من الدموع، ببع الحبر و الكلمات و الكثير من المشاعر و العواطف.
حملت دفتري قاصدة الحديقة كعادتي، و هناك اخترت ركنا هادئا بعيدا عن الناس... و بدأت الكتابة.
- كيف حالك الان؟ جاءني هذا الصوت من الخلف، استدرت لأعرف من المتكلم، فكان هو....
كان يقف خلفي مبتسما...
ارتسمت معام الدهشة على وجهي لكن سرعان ما تلاشت و تحولت إلى ابتسامة، و قلت بنبرة لا تخل, من التعجب: انت...!
أعاد جملته مرة أخرى و لكن مع ابتسامة اوسع، قال: كيف حالك؟
قلت:
- حمدا لله...
قال:
- و انا ايضا أحمد الله الذي منحني هذه الفرصة حتىأعتذر عما بدر مني اليوم.
قلت:
- لا عليك.. فأنا من يتوجب عليه الاعتذار، كان يجب علي أن أكون أكثر حذرا و أنا أقطع الشارع....
أضاف مبتسما:
- و يجب عليك ذلك عندما تتمشين بمفردك أيضا.
قلت متعجبة، وقد اتسعت عيناي:
- أنت تذكرني مثلما أذكرك إذا! لم اتوقع ذلك..
قال و هو يجذب احد الكراسي:
- أيزعجك أن أجلس معك؟
كنت اعلم أنه كان يجب علي الاعتذار بشكل لائق و أغادر، لكن وجدت نفسي أقول له: تفضل.
جلس على الكرسي المقابل، وقال لي معرفا: اسمي ربيع ياسين، صحفي بجريدة المنبر.
قلت مرحبة: أهلا و سهلا.. و انا حنان جاد الله، طالبة في كلية الحقوق.
قال:
- تشرفت بمعرفتك.
ثم أضاف:
- اتأتين هنا دائما..
قلت:
- تقريبا في أيام العطل, أما في أيا الدوام فنادرا ما أأتي الى هنا..
قال:
- أتصدقين؟ على الرغم من أنني أعمل هنا ننذ فترة لا بأس بها إلا أن هذه هي المرة الأولى التي أدخل بها هذه الحديقة، و قد كانت صدفة جميلة حتى أتعرف بها عليك...
قال:
- يخيل لي أنك لم تشربي شيء بعد.
قلت معتذرة:
لا.. فلا رغبة لي بشرب شيء.
قال:
- انتظريني قليلا.... و ذهب.
أدركت بأنه ذاهب لشراء شيء لنشربه، ولكنه لم يتح لي مجالا للإعتذار فقد ذهب مباشرة، فجلست أتصفح دفتري ريثما يعود.
لم يغب طويلا، جاء و هو يحمل زجاجتي عصير، وضع واحدة أمامي و الأخرى على الجهة المقابلة و رجع الى مكانه.... قال: اتمنى ان تكوني من محبي عصير البرتقال فقد قصدت شراءه اذ أنه العصير الذي يلقى قبولا من الجميع...
شعرت بالخجل، فلم يكن ذلك من اللائق، اذ أن هذه المرة هي المرة الأولى التي أجلس فيها معه، فشكرته...
سألني:
- ماذا تكتيبن؟
فأجبته و أنا اغلق الدفتر:
- شيء لا يستحق الذكر...
قال:
- ليس هناك من شيء يكتب لا يستحق الذكر، لأننا نكتب ما نظنه الأصدق، او دعينا نقول أننا نكتب الأصدق حقا، لأننا لا نستطيع ان نكذب على أنفسنا، أليس كذلك؟
كنت أنظر اليه و هو يتكلم، أتأمله، لقد كان شابا وسيما بالفعل، تبين لي من طريقة كلامه أن له ثقة بنفسه قلما تراه في شباب هذه الأيام... لا أنكر أنه عجبني من اللقاء الأول..
و كأنه لاحظ شرودي عندما تأخرت بالاجابة، فسألني: فيم تسرحين؟
شعرت بالحرج، فقلت فورا: فيم تقول... أجل, أظنك محق.
قام من مكانه و مد يده يصافحني قائلا: جميل هو لقائي بك اليوم... كنت أود لو كان هناك مزيد من الوقت، ولكن يجب ان اعود الى عملي...
لم أعرف بما أجبه، فقد كان ينتظر مني جوابا، فقلت له: سررت بمعرفتك...
قال مودعا:
- على الرغم من أن هذه هي المرة الأولى التي ااتي بها الى الديقة، و لكنني أجزم بأنها لن تكون الأخيرة...
لا أنكر بأنني انزعجت عندما هم بالذهاب، كنت أود لو أنه بقي أكثر... لقد أعجبني حديثه و سحرني حضوره، لكني لم أستطع أن أستبقيه.. و لا أدري لماذا تذكرت ذلك الشعور الذي انتابني عندما رأيته لأول مرة فابتسمت، و تذكرت مثلا كنت أسمعه من امي كثيرا...
لم أستطع النوم في تلك الليلة، فقد كنت أفكر بربيع، و تعجبت من نفسي، كيف يكون قد شغل عقلي هكذا من لقاء واحد...
ان في هذا الشاب لشيء يميزه عن غيره، كلامه، ثقته العالية بنفسه، ملامحه، كل شيء فيه...
...في الصباح كان الوقت يمشي ببطء على غير ما اعتدته في أيام العطل، نظرت الى الساعة فلم تكت تتجاوز العاشرة و النصف... الا تبا لك من ساعة لعينة..
هكذا هي الحياة، تفاجأنا بسرعتها الجنونية عندما نكون أحوج منها الى ذلك الوقت الذي تطويه بين ذراعيها، و يالها من سلحفاة كريهة في الوقت الذي نكن في مع المجهول..
المجهول.... اجل، فأنا لا اذكر أن ربيع قد قال لي ما يؤكد بأنني سأراه اليوم، هو لم يقل لي سوى أن دخوله الأول إلى تلك الحديقة لن يكون الاخير، فلماذا افترضت إذن أنني سأراه اليوم، وكأنه في جملته الأخيرة أراد أن يحمل لي موعدا أخرا، شعرت بحماقتي و أنا أصل الى هذا الحد من التفاؤل، وشعرت بالخجل أيضا لانجراري وراء عواطفي بهذا الشكل الغريب، فماذا لو كان كل الذي قاله لي ليس إلا من باب المجاملة... ذلك جعلني أفكر، ايعقل أن أكون قد أخذت من تفكير ربيع كما قد أخذ هو من تفكيري...
لا، هذه حماقة أخرى أرتكبها بسؤالي هذا خلال دقائق... إذ لا بد أن ربيع قد نسي أمري بمجرد خروجه من الحديقة... و إن حدث و تذكرني فهو بالنسبة له كأي حدث جرى له بالأمس ليس أكثر، بل قد يكون على الأكثر...
و مع ذلك لم أنتظر كثيرا، فقد كنت في حدود الساعة الثانية و النصف أحمل دفتري بين يدي و أخرج من البيت قاصدة الحديقة ذاتها....
في ذلك الركن ذاته كنت أجلس، أنتظر مجيء شخص قد يأتي و قد لا يأتي، أشغل نفسي بالكتابة تارة، و تارة أخرى أشغل نفسي بمراقبة أطفال يلعبون، كان منظرهم جميل، و كانت هذه هي المرة الأولى التي أراقب فيها شيئا كهذا، و تعجبت كيف اني لم أنتبه لجال ذلك.... إذن فهذه إحدى حسنات الإنتظار و أخالها الوحيدة، فهي تعطينا فرصة للتأمل و التمتع بجمالية الظواهر من حولنا.
و جاءني صوته من الخلف مرة أخرى، قائلا: كنت أخشى أن لا تأتي..
قلت و كأنني أخفي تهمة انتظاري له: ألم أقل لك أنني آتي إلى هنا يوميا في أيام العطل.
قال: بلى، و لكنك قلت تقريبا..
شعرت بالسعادة، فهذا يعطيني دليلا بأنني قد خطرت بباله على الأقل، و إن كان على مجيئي فقد صدق، اذ أظنني لما كنت سآتي ذلك اليوم لولا أمل ضئيل برؤيته..
أستطيع القول الآن بأن تلك الجلسة كانت جلسة تعارف فيما بينن، فقد اني بأنه غريب عن هذه المدينة، وقد سكن فيها منذ فترة حتى يبقى قريبا من عمله، و أن أهله يقيمون حاليا في مدينة أخرى و هي مدينته، و علمت أيضا انه قد تخرج منذ عامين، و أن له أخت تقاربني في العمر تدرس في كلية الاقتصاد، أما انا فأخبرته أنني اعيش وحيدة مع أمي و أنني في مرحلتي الجامعية الرابعة، فلم تكن هناك تفاصيل أخرى في حياتي تستحق الذكر، ولا هو كان يحتج لأكثر من ذلك.
و كما في جلستنا الأولى فقد انتهت سريعا، فاستأذنني للرجوع إلى عمله.
تكررت لقاءتنا و جلساتنا، أصبحنا نلتقي دائما في الحديقة نفسها، و نشأت بيننا علاقة وطيدة، يرتاح بالحديث معي و أرتاح بالحديث معه.
خيل إلي انني أعرف ربيع منذ زمن، أو أنه كان يجب علي أن أعرفه منذ زمن، لقد شعرت أنه استطاع كسر جميع الحواجز التي قد تظهر بين أي شخصي في البدايات الأولى لتعارفهما، على الرغم من ذلك الارتباك الذي اشعر به كلما جلست معه.
و في أحد الايام تأخر ربيع على غير عادته، قلقت عليه فقد كانت تلك المرة الأولى التي يتأخر بها... قمت أريد الاتصال عليه من أحد الهواتف العمومية عندما رايته يدخل من البوابة، فجلست.
قال:
- أنا متأسف جدا فلقد اضطررت للتأخر، إذ كان يجب علي أن انهي بعض الاعمال قبل المجئ الى هنا.
قلت:
- لا عليك.. المهم أنك بخير، لقد قلقت عليك كثيرا....... اتود الجلوس؟
قال معتذرا:
- لا أستطيع، فقد جئت لأعتذر منك فقط... انني مشغول جدا هذا اليوم..
أدركت أن الاستياء قد اكتسى ملامحي عندما قال: يمكنك القدوم معي إن أردت ذلك.
ابتسمت و قلت بعفوية: بالطبع اريد..... كان يجب عليك أن تعرض علي ذلاك العرض من قبل فأنا احب تلك الاماكن.
... في الحقيقة أنا لا أحب تلك الأماكن بالذات، و لا أحب غيرها، بل احب كل مكان يجمعني به.
... ذهبت معه إلى العمل، كان مكتبه في الطابق السادس، و كان فيه اربعة مكاتب، اثنان متجاوران و يقابلهما آخران...
عرفني بزملائه.. "هناء" سيدة متوسطة بالعمر قدرت بأنها متزوجة، "سمر" شابة أنيقة جميلة إلى حد ما، كرهت فيها نظراتها التي ترمي بها ربيع بين آونة و أخرى. وأخيرا "عادل" صديق ربيع منذ أيام الطفولة، وقد استمرت صداقتهما حتى الآن، فلم ينقطعا عن بعضهما أثناء دراستهما الجامعية، و حتى بعد الوظيفة.
كان عادل شابا ظريفا يشبه ربيع في خلقه و طريقة تفكيره، فاندمجت معه سريعا.
لم يطل جلوسي هناك، فقمت مودعة و أنا لا أطيق النظر إلى وجه "سمر" إذ انني شعرت أن وجودها و حضورها هناك مزعجان لدرجة.
أوصلني ربيع إلى الباب الخارجي، قال لي: يجب أن أراك اليوم بعد انتهاء الدوام.
قلت:
- لا، لا استطيع ذلك.
قال:
- اتفقنا سأكون بانتظارك بالخامسة و النصف في نفس المكان...... و انسحبز
لم أستطع إلا ان انتظره، على الغم من أنني أعرف تماما موقف أمي في حال تأخري، و لكن الفضول أيضا سيقتلني إن بي الأمر للغد.
لم أكن أصدق أن الوقت اخيرا قد مر عندما رأيته يدخل من الوابة، جلس على الكرسي المقابل، كان متوترا بعض الشيء، لاحظت ذلك من حركة أصابعه.... في الواقع كانت تلك المرة هي المرة الأولى التي أراه فيها على تلك الحال.
قال بعد شئ من الصمت:
- تأخرت عليكي، أليس كذلك؟ ثم أضاف مباشرة دون ان يعطيني فرصة للكلام "و لكنني آسف جدا، لم استطع أن أغادر المكتب قبل ذلك"
قلت:
- لا ابدا لقد وصلت في موعدك، و أضفت مازحة: _ ولكن ارجو ألا يطول حديثك، فأنا لا اعرف كيف سأبرر لأمي تاخيرا كهذا.
قال:
- فعلا أنا لن اطل الحديث علي و عليك، سأدخل في الموضوع مباشرة.
صمت قليلا، ثم قال بعد شيء من التردد: حنان، أنا معجب بك، أنا... انا أحبك يا حنان.
نظرت إليه، و شعرت بدقات قلبي تتزايد، و لم أستطع النظر إلى عينيه أكثر، فأخفضت نظري الى الطاولة..
في الحقيقة كنت أتوقع أنه سيمهد لمثل هذا الأمر، و لم أتوقع بأنه سيقوله هكذا مباشرة...
قال مسرعا و كأنه كان خائفا من أن تتبخر الكلمات: كنت أود أن اخبرك بذلك منذ شهر، و لكنني لم استطع، لم اجرؤ، كان يجب علي أن أتحقق من حقيقة مشاعري اولا، حنان، انا لا اريد جوابك بسرعة، خذي ما شئت من الوقت، ولكن عديني أن تنسي حديثي هذا إذا رفضت هذا الموضوع، عديني أن نبقى اصدقاء مهما كانت اجابتك.
قلت: أعدك.
اسحبت مسرعة إلى البي حتى دون أن أودعه.
و في الطريق كنت احاول أن أسرع الخطى حتى أخفف من حدة علااك قد ينشب بيني و بين والدتي في تلك الليلة، كما أنني كنت أفكر في كذبة بيضاء كما يقولون كي ارويها لها، فأنا لا اريدها أن تفسد علي الليلة.
... وفي البي حصل ما كنت أتوقعه، فما إن رأتني حتى صاحت بي، و لكنني لا المها فأظن أن مقدار توبيخها كان بمقدار ما قلقته علي، عدا على ذلك كان يجب علي أن أتحمل عواقب خطأ كنت قد صممت علي على الرغم من معرفتي لنتائجه... و لكن ثورتها لم تخمد إلا عندما أخبرتها بأنني كنت برفقة صديقتي "رهام" لننتقي معا فستانا بمناسبة عرس أخيها.
لم أعرف كيف نمت في تلك اليلة فقد شعرت أنني في سعادة غامرة يجب أن أفكر بها طلاال الليل وأن لا اسمح للنوم بأن يسرقها، و لكنني نمت، واظن أن اجمل ما في منامي أن يكون ربيع قد شاركني إياه بالأحلام.
اعترفت لربيع بأنني معجبة به أيضا، واصبحنا نتقابل أكثر من ذي قبل، وشعرت بالسعادة في تلك الأيام، و بقينا على ذلك الحال أشهر لا أذكر أننا تخاصمنا خلالها، واصبحت أزوره في بعض الأيام بمكتبه أن تعذر عليه المجيء إلى الحديقة.
اصبحت أمي خلال تلك الفترة تبين انزعاجها من خروجي المتكرر و تأخري في بعض الأحيان، فاضطررت أن أنقل ذلك إلى ربيع عندما أصبح يشعر بأنني احاول التهرب منه، فأخبرني أنه سيتقدم لخطبتي الشهر القادم أن كان ذلك يريحني.
كان ذلك الخبر أجمل خبر سمعته من ربيع عل الإطلا، و أصبحت أنتظر إطلالة الشهر القادم بفارغ الصبر...
و لكن تلك الفرحة لم تكتمل، إذ توفيت عمة ربيع بعد يومين، فاضطر ربيع أن يرجع إلى مدينته، و اخبرني بأنه سيبقى هناك أسبوع، وذلك الحدث يعني تأجيل موضوع الخطبة شهران آخران.
لم أكن أعرف كيف سيمضي الوقت هذا الاسبوع، و لكن ما إن مضى خمسة ايام على سفر ربيع حتى شعرت أمي بتعب شديد اضطررنا على أثره نقل أمي إلى المشفى، وهناك اتضح للأطباء أنها الزائدة الدودية، فتم نقلها الى غرفة العمليات لإجراء استئصال لتلك الزائدة و التي كانت على وشك الانفجار.
بقيت أمي في المشفى يومين، كنت انام معها خلالها، و بعد رجوعنا إلى المنزل لم يفرغ البيت من الزوار القادمين ليهنؤوننا على سلامتها.
كنت أعلم أن ربيع قد رجع من سفره منذ ثلاثة ايام، ولكن حالة أمي و وجود الضيوف المستمر بالبيت حال بيني و بين ذهابي الى الحديقة لرؤيته.
تماثلت أمي ألى الشفاء و بدات وطأة الزوار تخف، فانتهزت نومها في أحد الأيام، و توجهت إلى الحديقة التي لم أكن قد دخلتها منذ أسبوعين تقريبا.
كنت أفكر طوال الطريق، أتراه اشتق لي كما اشتقت له؟ أسيكون موجودا بالحديقة أم أنه سأم انتظاري؟.. أسالة كثيرة دارت في مخيلتي بالطريق...
كنت اتمنى لو أن لدى عيوني معجزة خارقة تمكنهما من اختراق الجدران حتى أستطيع أن أرى إن كان ربيع بانتظاري داخل الحديقة أم لا، او ان يكون لهما القدرة على تركي و ان يسبقاني إلى الحديقة و إخباري ان كان ربيع لا يزال على موعدنا، ولكن زمن العجزات قد ذهب.
عندما دخلت إلى الحديقة رايته يجلس على الطاولة نفسها، كاد قلبي يقفز من الفر، فقد مضى وقت طويل على آخر مرة رايته فيها,
جلست على الكرسي المقابل، لاحظت عليه بعض الإرهاق، و لم أكن انظر إلى ذلك الوجه البشوش الذي اعتدته، كان وجها أصفرا باهتا شاحب اللون، ابتسمت له و قلت:- أعلم أنك غضبان مني، و لكن صدقنيأن الأمر كان خارجا عن إرادتي... كيف حالك ربيع؟
قال:
- حمدا لله، أين كنت طوال تلك الفترة؟
شرحت له ما مر بي من ظروف بعد سفره، واعتقدت أنه سيغفر لي أمرا خارجا عن إرادتي، لم أدر وقتها ان كان لم يكترث فعلا لغيابي، ام انه اصطنع ذلك.
"حمدا لله على سلامتها" هو كل ما قله لي بعد ذلك الشرح المطرل.
قلت له و أنا أتوقع أن مشاعره ستلتهب من جديد: - اشتقت لك.
لم ينظر إلي، اكتفى بأن يهز رأسه فقط، و هو يحاول أن يتحاشى نظراتي.
قلت له بحدة:
- ماذا تنتظر مني أن أفعل بهذه الحالة؟ أن أترك أمي المريضة لوحدها حتى أراك.
لم يجبني بل بقي صامتا.... قلت له: - ارجوك يا ربيع افهمني، انا لا استطيع رؤيتك هكذا.... سأشتري هاتفا و وقتها أستطيع أن أحادثك و قتما نشاء، و لن نشعر بالبعد، أليس كذلك؟
قلت و كأنني أتذكر شيئا مهما:
- صحيح أنني لا املك ثمنه الآن، و لكنني أستطيع ان أدخره، أنت لا تدري كم اشتقت اليك في هذه الفترة.
قال:
- يكفي يا حنان، ارجوك فما تريني به الأن لم يكن إلا خوفا من أن لا أراك اليوم، فأنا سأرجع إلى المدينة مساء اليوم، صدقينيكنت خائفا أن لا أراك قبل سفري..ز
قلت و انا أحاول أن استشف شيئا من كلامه:
- سفر! عن اي سفر تتحدث؟ و هل تسمي رجوعك إلى مدينتك لفترة سفر...!
قال بهدوء:
- لا، بل إلى سويسرا...
صحت:
- سويسرا، و ما لك هناك؟
قال:
- ساسافر بعد يومين، لي صديق هناك و قد أمن لي عمل ممتاز.
قلت:
- و اي عمل هناك بعيد عن أهلك و اصدقائك و احبابك، أنت تعمل هنا و عملك جيد، ألم تقل لي ذلك؟
قال:
- لقد قررت و حسمت أمري.
قلت:
- و انا ألم تفكر بي؟ لقد كنت على وشك خطبتي..
قال:
- أرجوك يا حنان، سأدعو من الله دائما أن يحفظك أينما كنت، ستبقين ذكرى جميلة في حياتي.
قلت و أنا أبكي:
- لا، أنا لست ذكرى فقط، سأنتظرك أجل سأنتظرك.
قال:
- انت لا تستطيعين ذلك يا حنان، أنا لا أعلم كم من الوقت سأبقى هناك.
قلت:
- أنت سترجع، لن يطيل مكوثك هناك، لأنك لا تستطيع الابتعاد عني إنك تحبني و أنا احبك أيضا لذلك سأنتظرك و إن طال غيابك، أعدك.
قال و هو يقوم عن الكرسي:
- أرجوك يا حنان لا تبك، إن دموعك غالية علي..
قلت:
- و لكن أين حبك لي من كل هذا؟
أدار ظهره ومشى، فصرخت به: أجبني...
نظر إلي من دون أي يجبني، ومن ثم تابع طريقه، كنت أنظر أليه من خلال دموع غطت عيني، بقيت أنظر إليه حتى اختفى عن نظري طيفه..
و عدت للتساؤلات... لماذا يا ربيع؟ لماذا فعلت بي هذا؟ أنا لم افعل لك شيئا، بل على العكس فقد احببتك بكل جوارحي و أخلصت لك، أهذا يكون جزاء المحب المخلص؟ اهذا يكون جزاء من أحبتك؟ما الذي جرى؟ و لماذا جرى؟ لا أدري..
بعد أشهر وضعت أختي طفلا فرحنا به كثيرا، فقد كان الطفل الأول لها بعد زواج أربعة أعوام، ذهبت لزيارتها في المشفى، دخلت غرفتها، كان طفلها نائما بجانبها، لقد كان طفلا جميلا حقا، مكثت هناك ربع ساعة، ومن ثم ودعتهم و خرجت...
رأيته، تفاجأت به، اجل لقد كان هو، ربيع....عرفته على الرغم من ذلك التغيير قي ملامحه، لقد كان نحيلا هزيلا أكثر من ذي قبل، و كان شعره قد خف أيضا.... حاول أن يهرب مني، مشى و كأنه لم يرني، أكان يعتقد أن فترة فراقنا تلك و تغير ملامحه كافيان حتى لا أعرفه؟!
لكنني ناديته،و لحقت به... نظر إلي، لم يكن هناك حاجة للكلام، فما رأيته كان أبلغ، إنه السرطان إذن، ذلك المرض الخبيث الذي سرق مني أغلى أحبابي و بدأ يمتص رحيق شبابه...
قلت له، وأنا أبكي بكاءا حارا: - لماذا يا ربيع؟ لماذا لم تقل لي؟ لماذا؟
بقي صامتا، فقلت بهدوء و أنا لا ازال أذرف دموعي على حبيب بدأ يرحل: - لماذا؟ اجبني؟
قال:
- ماذا أقول لك؟ بماذا كان يجب علي أن أخبرك؟ بأنني مريض؟... أهون علي أن تقولي عني خائن ألف مرة على أن أجعلك تعرفين حقيقة كهذه...
قلت و أنا منهارة: - و لكنني احبك، كان يجب علي أن أقف إلى جانبك.. أن أواجه الامر معك.
قال: - أرجوك يا حنان اذهبي، اذهبي الآن...
قلت: - لا، لن أتركك، كم كنت مغفلة عندما تركتك تذهب في آخر مرة رأيتك فيها، من المحال ان أكرر حماقة قد ارتكبتها في السابق... لن أتركك يا ربيع أنا لا زلت أحبك و سأبقى إلى جانبك.
قال بهدوء محزن: -أرجوك يا حنان اذهبي و لا تجعلني أرى دموعك هذه، إنها تزيد من عذابي، أرجوك اذهبي و لا تحاولي أن تريني مرة أخرى، فلن تجديني مهما بحثت عني... لطالما تمنيت أن تكوني قد نسيتنيني و حقدتي علي، اذهبي يا حنان فأنت لا تعلمين كم كنت اعاني عندما رأيت دموعك في آخر مرة رأيتك فيها..
قلت له: - سأتركك، ولكن اسمح لي بأن اتصل بك كل يوم..
قال:
- لن تستطيعي فقد غيرت رقم الهاتف، و لكنك تستطيعين الاطمئنان عن صحتي عن طريق عادل، فهو يتصل بي يوميا...
قلت:
- لماذا تصر يا ربيع أن تقتل نفسك؟ أرجوك اسمعني...
قاطعني:
- كلا يا حنان أنا لا أقتل نفسي بالحياة، حياة أمثالي و موتهم واحد، ما فائدة حياة شخص يعلم بأن أيامه معدودة؟...
قلت له راجية: - أرجوك لا تقل ذلك، أنت تعذبني، انت ستعيش و لن تموت، اجل... يا ربيع و سنتزوج كما اتفقنا...
قاطعني مرة أخرى و علامات الليأس قد بانت على و جهه:
- كفى يا حنان، ارجوك اذهبي، و لا تدعيني أذهب بدلا عنك، فأنت لا تعرفين كم عانيت ذلك اليوم عندما تركتك تنادين و لا أجيب...
ركضت خارج المشفى، و أنا أبكي بكاء مريرا....
مضت الأيام و أنا اطمأن على ربيع عن طريق صديقه عادل، لم أستطع رؤيته مرة أخرى على الرغم من محاولاتي المتكررة، كنت أحاول التحايل على عادل حتى يعطيني رقم الهاتف الذي يخص ربيع و لكنني فشلت في ذلك أيضا...
أذكره تماما ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى عادل اسأله عن صحة ربيع و أخباره ليخبرني بأنه توفي، توقف عمري عند تلك اللحظة، وتوقف بي العالم بأجمعه، شعرت بأن أرجلي غير قادرة على حملي فتهاويت على كرسي....
وصلت إلى المنزل، وبقيت حبيسة غرفتي أبكي بحرقة و صمت... و امضيت على هذه الحال ما يقارب أكثر من شهر...
توفي ربيع إذن، توفي هكذا، دونما وداع، دونما أن أراه... توفي و اضحى نعوة في جريدة، و ذكرى في القلوب...
لا أعلم ما الذي يجعلني أذكره دائما، وما الذي يجعلني أبكي بتلك الحرقة في كل مرة أذكره فيها على الرغم من ارتباطي برجل آخرسيكون زوجي بعد ايام، و على الرغم من مرور عام و شهران على وفاته... إنني لأسأل نفسي الآن " كم من الوقت يلزمنا لننس من كان الاجمل في حياتنا يوما؟"
سؤال لا جواب له، إذ انه من المحال ان ننس، وكيف ننس من كان نحن؟ ومن كنا هو في يوم من الايام، من المحال ان ننس مهما أعطتنا الحياة عمرا كي ننس...
الغريب في الأمر أنني لا أشعر بالخيانة للرجل الذي سأزف إليه بعد ايام عندما أفكر بربيع، بل انني أشعر بأنني أخون الماضي و الذكريات و أيامي الجميلة مع ربيع كلما فكرت بموعد زفافي... إن ربيع لا يستحق مني هذه الخيانة..
إن كل فتاة تحلم بيوم عرسها و ذلك الفستان الأبيض الذي سترتديه في ذلك اليوم، وتبدأ بعد الأيام و الساعات ترقبا له، إلا أن فقد كنت اشعر بأنني مقدمة على جريمة خطيرة كلما اقترب يوم زفافي أقتل فيها الماضي دون ان اترك بصماتي على رقبته ..
لا شك أن الذاكرة ليست إلا عزاؤنا الوحيد نشيع فيه جثمان من عز علينا فقدانهم و أصبحوا جثثا هامدة في منعطفات الزمان بعد أن قتلتهم الذاكرة متنكرة باسم النسيان، فهنيئا لك با ربيع تلك الجنازة التي سأشيع به جثمانك على طريقتي...
دون تفكير أقوم و أفتح خزانتي.. أختار ثوبا أسود كي ألبسه، وأخرج من المنزل، أذهب إلى نفس المكان الذي رأيتك فيه لأول مرة، اذهب لأتحرش بذاكرتي، لأقيم لك جنازة في قلبي اطلب فيها أن تكفر لي عن جريمة سأقترفها بعد ايام...
كما ذاك اليوم امشي شارة الذهن، حزينة، وحيدة، أتفاجأ بعادل يمشي في جنازة، ثم ارى سمر تقف بعيدة تنظر إلى تلك الجنازة باكية حزينة، أذهب إليها، اقف بجانبها، أحتضنها بحنان، تقترب مني و تقول:- رحمه الله، توفي بعز شبابه...
يزيد بكاؤها و تقول: - رحمك الله يا ربيع..
ابتعد عنها قليلا، اسألها: ربي... ربيع، من ربيع؟
تقول و هي تبكي أكثر: - ربيع ياسين، توفي في عز شبابه...
أبتعد عنها... فبعد أن كنت أواسيها أصبحت اجدر بهذه المواساة، لم أشعر بشيء من حولي، أشعر فقط بهاوية تسحبني للأسفل...
ألم يقل عادل بأن ربيعا قد مات؟ ياالله، هل يموت الميت بعد موته؟ لمذا يا ربيع؟ لماذا قتلت نفسك في مخيلتي؟ لماذا جعلتني أرتبط بغيرك و أنت لا تزال على قيد الحياة...
أنا التي كانت تشعر بخيانتك و انت ميت، فكيف سأشعر بعدما علمت بأنك كنت حي... اه يا ربيع ما أعظمه من ثقل قد أحملتني إياه...
أنا التي جئت طالبة من قلبك السماح... فكيف سيسامحني بعد أن كان حي ينبض، و يرى خيانتي أمامه؟؟
أكنت تدري بأنني قد ارتطبت بآخر؟ أتراك رأيتني معه؟ كم مرة رأيتني فيها برفقته؟ و كم مرة كنت اذبحك فيها في كل مرة تراني فيها معه؟ لكنك لم تكن تعلم بالتأكيد انك انت وحدك الذي سكنت قلبي...
أنت الذي قلت لي دعيني أطبع صورتك الاخيرة في مخيلتي مبتسمة، فطبعت صورتي الاخيرة مع غيرك..
انا التي جئت اليوم لأتحرش بالذاكرة و الماضي، فإذ بالماضي ينبعث أمامي في صورة بشعة يهدي إلي جنازة اكبر من تلك الجنازة التي كنت سأقيمها لك...
شعرت بمقدار خيانتي لك و ببشاعة تلك الجريمة، و لا أدري إن كان ما سأفعله يكفر عن ذنب اقترفته في أحب الناس إلي دون قصد...
الآن.... اخلع خاتم الخطوبة من بنصر يد اليمنى، و أتابع المشي... أسمع أغنية كنت قد حقدت عليك بسببها يوما و ها أنا ابكيك و انا أسمعها..... افتقد اصطدامي لشخص كان هو الاحب.
انني لا أزال أذكر ذلك اليوم، صدفة القدر تلك التي وضعته في طريقي ووضعتني في طريقه..
كان ذلك في أحد أيام الشتاء، كنت امشي على رصيف احد الشوارع العتيقة الخالية، و كان كل شيء يوحي هناك بالهدوء، على الرغم من صوت المطر و صوت اغنية كانت تنبعث من احدى المحلات التجارية، أعجبتني كلماتها كما اعجبني لحنها الشجي، و ذلك التوافق بين صوتها و صوت المطر الذي زاد من جماية ذلك الهدوء، و قضى على صمت تام...
أردت الدخول الى ذلك المحل لأسأل صاحبه عن تلك الأغنية، لكنني لم أستطع، فلم يكن من اللائق أن ادخل خصيصا لسؤال كهذا.. و لهذا فقدت تعمدت المشي ببطء حتى أستطيع سماعها كاملة..
أذكر أنني سرحت و أن ذهني قد شرد قليلا، و لم أفق من شرودي الا بعد اصطدامي بشاب صدمة قوية كانت كافية كافية لتردني الى صوابي...
أعتذرت له فقد كنت أنا المخطئة، ولكنني تفاجأت بانتهاء تلك الأغنية، الشيء الذي جعلني لاأستطيع مقاومة شعور بالحقد قد تولد داخلي تجاه ذلك الشاب على الرغم من جهلي اياه، و على الرغم من أنني أنا التي كنت المخطئة...
و لم يكن لي لأتوقع أنني سأسمع تلك الأغنية للمرة الثانية، بحضور اخر للشاب نفسه و بمشاعر تختلف تماما عن المشاعر التي أحملها الان...
تابعت طريقي إلى المنزل، وكلمة امنزل تعني لي الوحدة و الملل، فقد كنا اثنتين فقط انا و أمي، بقينا وحيدتين بعد زواج اختي الكبرى، و سفر أخي لإتمام دراسته بالخارج، و وفاة والدي قبل ثلاثة أعوام...
قبلت يد أمي، و طلبت منها الدعاء لي و لأخوتي، و دخلت الى غرفتي...
غرفتي التي لا أعتبرها سوى صندوق مغلق على بعض الأحلام و بعض الأمال و الكثير من الالام... هذه هي غرفتي بجدرانها الكئيبة الموحشة، ليست الا قبرا متواضعا أدفن فيه جثث أوهامي و بقاي خيباتي...
كنت في طريق العودة من الجامعة عندما أن تصدمني سيارة أثناء قطعي للشارع، خرج السائق فزعا يعتذر لي، و لم يكن من الصعب عي أن أميز فيه الشاب الذي اصدمت به قبل أيام، و استطعت ان أخمن انه لم يذكرني.
... ركب السيارة و هو يعتذر لي..
في ذلك اليوم كنت قد انهيت امتحاني الأخير لذلك العام، و بهذا تكون العطلة قد بدأت...
اعتدت في لأيام العطل أن أذهب الى الحديقة التي تقع في الشرع الخلفي لشارعنا لأكتب مذكراتي.
كنت أشعر بأن الشيء الوحيد الذي أستطيع أن أبوح له بأسراري ليس إلا أوراق بيضاء مجوعة بين دفتين لونهما ازرق سماوي، تنتظر أن تدب بها الحياة ببعض البسمات و الكثير من الدموع، ببع الحبر و الكلمات و الكثير من المشاعر و العواطف.
حملت دفتري قاصدة الحديقة كعادتي، و هناك اخترت ركنا هادئا بعيدا عن الناس... و بدأت الكتابة.
- كيف حالك الان؟ جاءني هذا الصوت من الخلف، استدرت لأعرف من المتكلم، فكان هو....
كان يقف خلفي مبتسما...
ارتسمت معام الدهشة على وجهي لكن سرعان ما تلاشت و تحولت إلى ابتسامة، و قلت بنبرة لا تخل, من التعجب: انت...!
أعاد جملته مرة أخرى و لكن مع ابتسامة اوسع، قال: كيف حالك؟
قلت:
- حمدا لله...
قال:
- و انا ايضا أحمد الله الذي منحني هذه الفرصة حتىأعتذر عما بدر مني اليوم.
قلت:
- لا عليك.. فأنا من يتوجب عليه الاعتذار، كان يجب علي أن أكون أكثر حذرا و أنا أقطع الشارع....
أضاف مبتسما:
- و يجب عليك ذلك عندما تتمشين بمفردك أيضا.
قلت متعجبة، وقد اتسعت عيناي:
- أنت تذكرني مثلما أذكرك إذا! لم اتوقع ذلك..
قال و هو يجذب احد الكراسي:
- أيزعجك أن أجلس معك؟
كنت اعلم أنه كان يجب علي الاعتذار بشكل لائق و أغادر، لكن وجدت نفسي أقول له: تفضل.
جلس على الكرسي المقابل، وقال لي معرفا: اسمي ربيع ياسين، صحفي بجريدة المنبر.
قلت مرحبة: أهلا و سهلا.. و انا حنان جاد الله، طالبة في كلية الحقوق.
قال:
- تشرفت بمعرفتك.
ثم أضاف:
- اتأتين هنا دائما..
قلت:
- تقريبا في أيام العطل, أما في أيا الدوام فنادرا ما أأتي الى هنا..
قال:
- أتصدقين؟ على الرغم من أنني أعمل هنا ننذ فترة لا بأس بها إلا أن هذه هي المرة الأولى التي أدخل بها هذه الحديقة، و قد كانت صدفة جميلة حتى أتعرف بها عليك...
قال:
- يخيل لي أنك لم تشربي شيء بعد.
قلت معتذرة:
لا.. فلا رغبة لي بشرب شيء.
قال:
- انتظريني قليلا.... و ذهب.
أدركت بأنه ذاهب لشراء شيء لنشربه، ولكنه لم يتح لي مجالا للإعتذار فقد ذهب مباشرة، فجلست أتصفح دفتري ريثما يعود.
لم يغب طويلا، جاء و هو يحمل زجاجتي عصير، وضع واحدة أمامي و الأخرى على الجهة المقابلة و رجع الى مكانه.... قال: اتمنى ان تكوني من محبي عصير البرتقال فقد قصدت شراءه اذ أنه العصير الذي يلقى قبولا من الجميع...
شعرت بالخجل، فلم يكن ذلك من اللائق، اذ أن هذه المرة هي المرة الأولى التي أجلس فيها معه، فشكرته...
سألني:
- ماذا تكتيبن؟
فأجبته و أنا اغلق الدفتر:
- شيء لا يستحق الذكر...
قال:
- ليس هناك من شيء يكتب لا يستحق الذكر، لأننا نكتب ما نظنه الأصدق، او دعينا نقول أننا نكتب الأصدق حقا، لأننا لا نستطيع ان نكذب على أنفسنا، أليس كذلك؟
كنت أنظر اليه و هو يتكلم، أتأمله، لقد كان شابا وسيما بالفعل، تبين لي من طريقة كلامه أن له ثقة بنفسه قلما تراه في شباب هذه الأيام... لا أنكر أنه عجبني من اللقاء الأول..
و كأنه لاحظ شرودي عندما تأخرت بالاجابة، فسألني: فيم تسرحين؟
شعرت بالحرج، فقلت فورا: فيم تقول... أجل, أظنك محق.
قام من مكانه و مد يده يصافحني قائلا: جميل هو لقائي بك اليوم... كنت أود لو كان هناك مزيد من الوقت، ولكن يجب ان اعود الى عملي...
لم أعرف بما أجبه، فقد كان ينتظر مني جوابا، فقلت له: سررت بمعرفتك...
قال مودعا:
- على الرغم من أن هذه هي المرة الأولى التي ااتي بها الى الديقة، و لكنني أجزم بأنها لن تكون الأخيرة...
لا أنكر بأنني انزعجت عندما هم بالذهاب، كنت أود لو أنه بقي أكثر... لقد أعجبني حديثه و سحرني حضوره، لكني لم أستطع أن أستبقيه.. و لا أدري لماذا تذكرت ذلك الشعور الذي انتابني عندما رأيته لأول مرة فابتسمت، و تذكرت مثلا كنت أسمعه من امي كثيرا...
لم أستطع النوم في تلك الليلة، فقد كنت أفكر بربيع، و تعجبت من نفسي، كيف يكون قد شغل عقلي هكذا من لقاء واحد...
ان في هذا الشاب لشيء يميزه عن غيره، كلامه، ثقته العالية بنفسه، ملامحه، كل شيء فيه...
...في الصباح كان الوقت يمشي ببطء على غير ما اعتدته في أيام العطل، نظرت الى الساعة فلم تكت تتجاوز العاشرة و النصف... الا تبا لك من ساعة لعينة..
هكذا هي الحياة، تفاجأنا بسرعتها الجنونية عندما نكون أحوج منها الى ذلك الوقت الذي تطويه بين ذراعيها، و يالها من سلحفاة كريهة في الوقت الذي نكن في مع المجهول..
المجهول.... اجل، فأنا لا اذكر أن ربيع قد قال لي ما يؤكد بأنني سأراه اليوم، هو لم يقل لي سوى أن دخوله الأول إلى تلك الحديقة لن يكون الاخير، فلماذا افترضت إذن أنني سأراه اليوم، وكأنه في جملته الأخيرة أراد أن يحمل لي موعدا أخرا، شعرت بحماقتي و أنا أصل الى هذا الحد من التفاؤل، وشعرت بالخجل أيضا لانجراري وراء عواطفي بهذا الشكل الغريب، فماذا لو كان كل الذي قاله لي ليس إلا من باب المجاملة... ذلك جعلني أفكر، ايعقل أن أكون قد أخذت من تفكير ربيع كما قد أخذ هو من تفكيري...
لا، هذه حماقة أخرى أرتكبها بسؤالي هذا خلال دقائق... إذ لا بد أن ربيع قد نسي أمري بمجرد خروجه من الحديقة... و إن حدث و تذكرني فهو بالنسبة له كأي حدث جرى له بالأمس ليس أكثر، بل قد يكون على الأكثر...
و مع ذلك لم أنتظر كثيرا، فقد كنت في حدود الساعة الثانية و النصف أحمل دفتري بين يدي و أخرج من البيت قاصدة الحديقة ذاتها....
في ذلك الركن ذاته كنت أجلس، أنتظر مجيء شخص قد يأتي و قد لا يأتي، أشغل نفسي بالكتابة تارة، و تارة أخرى أشغل نفسي بمراقبة أطفال يلعبون، كان منظرهم جميل، و كانت هذه هي المرة الأولى التي أراقب فيها شيئا كهذا، و تعجبت كيف اني لم أنتبه لجال ذلك.... إذن فهذه إحدى حسنات الإنتظار و أخالها الوحيدة، فهي تعطينا فرصة للتأمل و التمتع بجمالية الظواهر من حولنا.
و جاءني صوته من الخلف مرة أخرى، قائلا: كنت أخشى أن لا تأتي..
قلت و كأنني أخفي تهمة انتظاري له: ألم أقل لك أنني آتي إلى هنا يوميا في أيام العطل.
قال: بلى، و لكنك قلت تقريبا..
شعرت بالسعادة، فهذا يعطيني دليلا بأنني قد خطرت بباله على الأقل، و إن كان على مجيئي فقد صدق، اذ أظنني لما كنت سآتي ذلك اليوم لولا أمل ضئيل برؤيته..
أستطيع القول الآن بأن تلك الجلسة كانت جلسة تعارف فيما بينن، فقد اني بأنه غريب عن هذه المدينة، وقد سكن فيها منذ فترة حتى يبقى قريبا من عمله، و أن أهله يقيمون حاليا في مدينة أخرى و هي مدينته، و علمت أيضا انه قد تخرج منذ عامين، و أن له أخت تقاربني في العمر تدرس في كلية الاقتصاد، أما انا فأخبرته أنني اعيش وحيدة مع أمي و أنني في مرحلتي الجامعية الرابعة، فلم تكن هناك تفاصيل أخرى في حياتي تستحق الذكر، ولا هو كان يحتج لأكثر من ذلك.
و كما في جلستنا الأولى فقد انتهت سريعا، فاستأذنني للرجوع إلى عمله.
تكررت لقاءتنا و جلساتنا، أصبحنا نلتقي دائما في الحديقة نفسها، و نشأت بيننا علاقة وطيدة، يرتاح بالحديث معي و أرتاح بالحديث معه.
خيل إلي انني أعرف ربيع منذ زمن، أو أنه كان يجب علي أن أعرفه منذ زمن، لقد شعرت أنه استطاع كسر جميع الحواجز التي قد تظهر بين أي شخصي في البدايات الأولى لتعارفهما، على الرغم من ذلك الارتباك الذي اشعر به كلما جلست معه.
و في أحد الايام تأخر ربيع على غير عادته، قلقت عليه فقد كانت تلك المرة الأولى التي يتأخر بها... قمت أريد الاتصال عليه من أحد الهواتف العمومية عندما رايته يدخل من البوابة، فجلست.
قال:
- أنا متأسف جدا فلقد اضطررت للتأخر، إذ كان يجب علي أن انهي بعض الاعمال قبل المجئ الى هنا.
قلت:
- لا عليك.. المهم أنك بخير، لقد قلقت عليك كثيرا....... اتود الجلوس؟
قال معتذرا:
- لا أستطيع، فقد جئت لأعتذر منك فقط... انني مشغول جدا هذا اليوم..
أدركت أن الاستياء قد اكتسى ملامحي عندما قال: يمكنك القدوم معي إن أردت ذلك.
ابتسمت و قلت بعفوية: بالطبع اريد..... كان يجب عليك أن تعرض علي ذلاك العرض من قبل فأنا احب تلك الاماكن.
... في الحقيقة أنا لا أحب تلك الأماكن بالذات، و لا أحب غيرها، بل احب كل مكان يجمعني به.
... ذهبت معه إلى العمل، كان مكتبه في الطابق السادس، و كان فيه اربعة مكاتب، اثنان متجاوران و يقابلهما آخران...
عرفني بزملائه.. "هناء" سيدة متوسطة بالعمر قدرت بأنها متزوجة، "سمر" شابة أنيقة جميلة إلى حد ما، كرهت فيها نظراتها التي ترمي بها ربيع بين آونة و أخرى. وأخيرا "عادل" صديق ربيع منذ أيام الطفولة، وقد استمرت صداقتهما حتى الآن، فلم ينقطعا عن بعضهما أثناء دراستهما الجامعية، و حتى بعد الوظيفة.
كان عادل شابا ظريفا يشبه ربيع في خلقه و طريقة تفكيره، فاندمجت معه سريعا.
لم يطل جلوسي هناك، فقمت مودعة و أنا لا أطيق النظر إلى وجه "سمر" إذ انني شعرت أن وجودها و حضورها هناك مزعجان لدرجة.
أوصلني ربيع إلى الباب الخارجي، قال لي: يجب أن أراك اليوم بعد انتهاء الدوام.
قلت:
- لا، لا استطيع ذلك.
قال:
- اتفقنا سأكون بانتظارك بالخامسة و النصف في نفس المكان...... و انسحبز
لم أستطع إلا ان انتظره، على الغم من أنني أعرف تماما موقف أمي في حال تأخري، و لكن الفضول أيضا سيقتلني إن بي الأمر للغد.
لم أكن أصدق أن الوقت اخيرا قد مر عندما رأيته يدخل من الوابة، جلس على الكرسي المقابل، كان متوترا بعض الشيء، لاحظت ذلك من حركة أصابعه.... في الواقع كانت تلك المرة هي المرة الأولى التي أراه فيها على تلك الحال.
قال بعد شئ من الصمت:
- تأخرت عليكي، أليس كذلك؟ ثم أضاف مباشرة دون ان يعطيني فرصة للكلام "و لكنني آسف جدا، لم استطع أن أغادر المكتب قبل ذلك"
قلت:
- لا ابدا لقد وصلت في موعدك، و أضفت مازحة: _ ولكن ارجو ألا يطول حديثك، فأنا لا اعرف كيف سأبرر لأمي تاخيرا كهذا.
قال:
- فعلا أنا لن اطل الحديث علي و عليك، سأدخل في الموضوع مباشرة.
صمت قليلا، ثم قال بعد شيء من التردد: حنان، أنا معجب بك، أنا... انا أحبك يا حنان.
نظرت إليه، و شعرت بدقات قلبي تتزايد، و لم أستطع النظر إلى عينيه أكثر، فأخفضت نظري الى الطاولة..
في الحقيقة كنت أتوقع أنه سيمهد لمثل هذا الأمر، و لم أتوقع بأنه سيقوله هكذا مباشرة...
قال مسرعا و كأنه كان خائفا من أن تتبخر الكلمات: كنت أود أن اخبرك بذلك منذ شهر، و لكنني لم استطع، لم اجرؤ، كان يجب علي أن أتحقق من حقيقة مشاعري اولا، حنان، انا لا اريد جوابك بسرعة، خذي ما شئت من الوقت، ولكن عديني أن تنسي حديثي هذا إذا رفضت هذا الموضوع، عديني أن نبقى اصدقاء مهما كانت اجابتك.
قلت: أعدك.
اسحبت مسرعة إلى البي حتى دون أن أودعه.
و في الطريق كنت احاول أن أسرع الخطى حتى أخفف من حدة علااك قد ينشب بيني و بين والدتي في تلك الليلة، كما أنني كنت أفكر في كذبة بيضاء كما يقولون كي ارويها لها، فأنا لا اريدها أن تفسد علي الليلة.
... وفي البي حصل ما كنت أتوقعه، فما إن رأتني حتى صاحت بي، و لكنني لا المها فأظن أن مقدار توبيخها كان بمقدار ما قلقته علي، عدا على ذلك كان يجب علي أن أتحمل عواقب خطأ كنت قد صممت علي على الرغم من معرفتي لنتائجه... و لكن ثورتها لم تخمد إلا عندما أخبرتها بأنني كنت برفقة صديقتي "رهام" لننتقي معا فستانا بمناسبة عرس أخيها.
لم أعرف كيف نمت في تلك اليلة فقد شعرت أنني في سعادة غامرة يجب أن أفكر بها طلاال الليل وأن لا اسمح للنوم بأن يسرقها، و لكنني نمت، واظن أن اجمل ما في منامي أن يكون ربيع قد شاركني إياه بالأحلام.
اعترفت لربيع بأنني معجبة به أيضا، واصبحنا نتقابل أكثر من ذي قبل، وشعرت بالسعادة في تلك الأيام، و بقينا على ذلك الحال أشهر لا أذكر أننا تخاصمنا خلالها، واصبحت أزوره في بعض الأيام بمكتبه أن تعذر عليه المجيء إلى الحديقة.
اصبحت أمي خلال تلك الفترة تبين انزعاجها من خروجي المتكرر و تأخري في بعض الأحيان، فاضطررت أن أنقل ذلك إلى ربيع عندما أصبح يشعر بأنني احاول التهرب منه، فأخبرني أنه سيتقدم لخطبتي الشهر القادم أن كان ذلك يريحني.
كان ذلك الخبر أجمل خبر سمعته من ربيع عل الإطلا، و أصبحت أنتظر إطلالة الشهر القادم بفارغ الصبر...
و لكن تلك الفرحة لم تكتمل، إذ توفيت عمة ربيع بعد يومين، فاضطر ربيع أن يرجع إلى مدينته، و اخبرني بأنه سيبقى هناك أسبوع، وذلك الحدث يعني تأجيل موضوع الخطبة شهران آخران.
لم أكن أعرف كيف سيمضي الوقت هذا الاسبوع، و لكن ما إن مضى خمسة ايام على سفر ربيع حتى شعرت أمي بتعب شديد اضطررنا على أثره نقل أمي إلى المشفى، وهناك اتضح للأطباء أنها الزائدة الدودية، فتم نقلها الى غرفة العمليات لإجراء استئصال لتلك الزائدة و التي كانت على وشك الانفجار.
بقيت أمي في المشفى يومين، كنت انام معها خلالها، و بعد رجوعنا إلى المنزل لم يفرغ البيت من الزوار القادمين ليهنؤوننا على سلامتها.
كنت أعلم أن ربيع قد رجع من سفره منذ ثلاثة ايام، ولكن حالة أمي و وجود الضيوف المستمر بالبيت حال بيني و بين ذهابي الى الحديقة لرؤيته.
تماثلت أمي ألى الشفاء و بدات وطأة الزوار تخف، فانتهزت نومها في أحد الأيام، و توجهت إلى الحديقة التي لم أكن قد دخلتها منذ أسبوعين تقريبا.
كنت أفكر طوال الطريق، أتراه اشتق لي كما اشتقت له؟ أسيكون موجودا بالحديقة أم أنه سأم انتظاري؟.. أسالة كثيرة دارت في مخيلتي بالطريق...
كنت اتمنى لو أن لدى عيوني معجزة خارقة تمكنهما من اختراق الجدران حتى أستطيع أن أرى إن كان ربيع بانتظاري داخل الحديقة أم لا، او ان يكون لهما القدرة على تركي و ان يسبقاني إلى الحديقة و إخباري ان كان ربيع لا يزال على موعدنا، ولكن زمن العجزات قد ذهب.
عندما دخلت إلى الحديقة رايته يجلس على الطاولة نفسها، كاد قلبي يقفز من الفر، فقد مضى وقت طويل على آخر مرة رايته فيها,
جلست على الكرسي المقابل، لاحظت عليه بعض الإرهاق، و لم أكن انظر إلى ذلك الوجه البشوش الذي اعتدته، كان وجها أصفرا باهتا شاحب اللون، ابتسمت له و قلت:- أعلم أنك غضبان مني، و لكن صدقنيأن الأمر كان خارجا عن إرادتي... كيف حالك ربيع؟
قال:
- حمدا لله، أين كنت طوال تلك الفترة؟
شرحت له ما مر بي من ظروف بعد سفره، واعتقدت أنه سيغفر لي أمرا خارجا عن إرادتي، لم أدر وقتها ان كان لم يكترث فعلا لغيابي، ام انه اصطنع ذلك.
"حمدا لله على سلامتها" هو كل ما قله لي بعد ذلك الشرح المطرل.
قلت له و أنا أتوقع أن مشاعره ستلتهب من جديد: - اشتقت لك.
لم ينظر إلي، اكتفى بأن يهز رأسه فقط، و هو يحاول أن يتحاشى نظراتي.
قلت له بحدة:
- ماذا تنتظر مني أن أفعل بهذه الحالة؟ أن أترك أمي المريضة لوحدها حتى أراك.
لم يجبني بل بقي صامتا.... قلت له: - ارجوك يا ربيع افهمني، انا لا استطيع رؤيتك هكذا.... سأشتري هاتفا و وقتها أستطيع أن أحادثك و قتما نشاء، و لن نشعر بالبعد، أليس كذلك؟
قلت و كأنني أتذكر شيئا مهما:
- صحيح أنني لا املك ثمنه الآن، و لكنني أستطيع ان أدخره، أنت لا تدري كم اشتقت اليك في هذه الفترة.
قال:
- يكفي يا حنان، ارجوك فما تريني به الأن لم يكن إلا خوفا من أن لا أراك اليوم، فأنا سأرجع إلى المدينة مساء اليوم، صدقينيكنت خائفا أن لا أراك قبل سفري..ز
قلت و انا أحاول أن استشف شيئا من كلامه:
- سفر! عن اي سفر تتحدث؟ و هل تسمي رجوعك إلى مدينتك لفترة سفر...!
قال بهدوء:
- لا، بل إلى سويسرا...
صحت:
- سويسرا، و ما لك هناك؟
قال:
- ساسافر بعد يومين، لي صديق هناك و قد أمن لي عمل ممتاز.
قلت:
- و اي عمل هناك بعيد عن أهلك و اصدقائك و احبابك، أنت تعمل هنا و عملك جيد، ألم تقل لي ذلك؟
قال:
- لقد قررت و حسمت أمري.
قلت:
- و انا ألم تفكر بي؟ لقد كنت على وشك خطبتي..
قال:
- أرجوك يا حنان، سأدعو من الله دائما أن يحفظك أينما كنت، ستبقين ذكرى جميلة في حياتي.
قلت و أنا أبكي:
- لا، أنا لست ذكرى فقط، سأنتظرك أجل سأنتظرك.
قال:
- انت لا تستطيعين ذلك يا حنان، أنا لا أعلم كم من الوقت سأبقى هناك.
قلت:
- أنت سترجع، لن يطيل مكوثك هناك، لأنك لا تستطيع الابتعاد عني إنك تحبني و أنا احبك أيضا لذلك سأنتظرك و إن طال غيابك، أعدك.
قال و هو يقوم عن الكرسي:
- أرجوك يا حنان لا تبك، إن دموعك غالية علي..
قلت:
- و لكن أين حبك لي من كل هذا؟
أدار ظهره ومشى، فصرخت به: أجبني...
نظر إلي من دون أي يجبني، ومن ثم تابع طريقه، كنت أنظر أليه من خلال دموع غطت عيني، بقيت أنظر إليه حتى اختفى عن نظري طيفه..
و عدت للتساؤلات... لماذا يا ربيع؟ لماذا فعلت بي هذا؟ أنا لم افعل لك شيئا، بل على العكس فقد احببتك بكل جوارحي و أخلصت لك، أهذا يكون جزاء المحب المخلص؟ اهذا يكون جزاء من أحبتك؟ما الذي جرى؟ و لماذا جرى؟ لا أدري..
بعد أشهر وضعت أختي طفلا فرحنا به كثيرا، فقد كان الطفل الأول لها بعد زواج أربعة أعوام، ذهبت لزيارتها في المشفى، دخلت غرفتها، كان طفلها نائما بجانبها، لقد كان طفلا جميلا حقا، مكثت هناك ربع ساعة، ومن ثم ودعتهم و خرجت...
رأيته، تفاجأت به، اجل لقد كان هو، ربيع....عرفته على الرغم من ذلك التغيير قي ملامحه، لقد كان نحيلا هزيلا أكثر من ذي قبل، و كان شعره قد خف أيضا.... حاول أن يهرب مني، مشى و كأنه لم يرني، أكان يعتقد أن فترة فراقنا تلك و تغير ملامحه كافيان حتى لا أعرفه؟!
لكنني ناديته،و لحقت به... نظر إلي، لم يكن هناك حاجة للكلام، فما رأيته كان أبلغ، إنه السرطان إذن، ذلك المرض الخبيث الذي سرق مني أغلى أحبابي و بدأ يمتص رحيق شبابه...
قلت له، وأنا أبكي بكاءا حارا: - لماذا يا ربيع؟ لماذا لم تقل لي؟ لماذا؟
بقي صامتا، فقلت بهدوء و أنا لا ازال أذرف دموعي على حبيب بدأ يرحل: - لماذا؟ اجبني؟
قال:
- ماذا أقول لك؟ بماذا كان يجب علي أن أخبرك؟ بأنني مريض؟... أهون علي أن تقولي عني خائن ألف مرة على أن أجعلك تعرفين حقيقة كهذه...
قلت و أنا منهارة: - و لكنني احبك، كان يجب علي أن أقف إلى جانبك.. أن أواجه الامر معك.
قال: - أرجوك يا حنان اذهبي، اذهبي الآن...
قلت: - لا، لن أتركك، كم كنت مغفلة عندما تركتك تذهب في آخر مرة رأيتك فيها، من المحال ان أكرر حماقة قد ارتكبتها في السابق... لن أتركك يا ربيع أنا لا زلت أحبك و سأبقى إلى جانبك.
قال بهدوء محزن: -أرجوك يا حنان اذهبي و لا تجعلني أرى دموعك هذه، إنها تزيد من عذابي، أرجوك اذهبي و لا تحاولي أن تريني مرة أخرى، فلن تجديني مهما بحثت عني... لطالما تمنيت أن تكوني قد نسيتنيني و حقدتي علي، اذهبي يا حنان فأنت لا تعلمين كم كنت اعاني عندما رأيت دموعك في آخر مرة رأيتك فيها..
قلت له: - سأتركك، ولكن اسمح لي بأن اتصل بك كل يوم..
قال:
- لن تستطيعي فقد غيرت رقم الهاتف، و لكنك تستطيعين الاطمئنان عن صحتي عن طريق عادل، فهو يتصل بي يوميا...
قلت:
- لماذا تصر يا ربيع أن تقتل نفسك؟ أرجوك اسمعني...
قاطعني:
- كلا يا حنان أنا لا أقتل نفسي بالحياة، حياة أمثالي و موتهم واحد، ما فائدة حياة شخص يعلم بأن أيامه معدودة؟...
قلت له راجية: - أرجوك لا تقل ذلك، أنت تعذبني، انت ستعيش و لن تموت، اجل... يا ربيع و سنتزوج كما اتفقنا...
قاطعني مرة أخرى و علامات الليأس قد بانت على و جهه:
- كفى يا حنان، ارجوك اذهبي، و لا تدعيني أذهب بدلا عنك، فأنت لا تعرفين كم عانيت ذلك اليوم عندما تركتك تنادين و لا أجيب...
ركضت خارج المشفى، و أنا أبكي بكاء مريرا....
مضت الأيام و أنا اطمأن على ربيع عن طريق صديقه عادل، لم أستطع رؤيته مرة أخرى على الرغم من محاولاتي المتكررة، كنت أحاول التحايل على عادل حتى يعطيني رقم الهاتف الذي يخص ربيع و لكنني فشلت في ذلك أيضا...
أذكره تماما ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى عادل اسأله عن صحة ربيع و أخباره ليخبرني بأنه توفي، توقف عمري عند تلك اللحظة، وتوقف بي العالم بأجمعه، شعرت بأن أرجلي غير قادرة على حملي فتهاويت على كرسي....
وصلت إلى المنزل، وبقيت حبيسة غرفتي أبكي بحرقة و صمت... و امضيت على هذه الحال ما يقارب أكثر من شهر...
توفي ربيع إذن، توفي هكذا، دونما وداع، دونما أن أراه... توفي و اضحى نعوة في جريدة، و ذكرى في القلوب...
لا أعلم ما الذي يجعلني أذكره دائما، وما الذي يجعلني أبكي بتلك الحرقة في كل مرة أذكره فيها على الرغم من ارتباطي برجل آخرسيكون زوجي بعد ايام، و على الرغم من مرور عام و شهران على وفاته... إنني لأسأل نفسي الآن " كم من الوقت يلزمنا لننس من كان الاجمل في حياتنا يوما؟"
سؤال لا جواب له، إذ انه من المحال ان ننس، وكيف ننس من كان نحن؟ ومن كنا هو في يوم من الايام، من المحال ان ننس مهما أعطتنا الحياة عمرا كي ننس...
الغريب في الأمر أنني لا أشعر بالخيانة للرجل الذي سأزف إليه بعد ايام عندما أفكر بربيع، بل انني أشعر بأنني أخون الماضي و الذكريات و أيامي الجميلة مع ربيع كلما فكرت بموعد زفافي... إن ربيع لا يستحق مني هذه الخيانة..
إن كل فتاة تحلم بيوم عرسها و ذلك الفستان الأبيض الذي سترتديه في ذلك اليوم، وتبدأ بعد الأيام و الساعات ترقبا له، إلا أن فقد كنت اشعر بأنني مقدمة على جريمة خطيرة كلما اقترب يوم زفافي أقتل فيها الماضي دون ان اترك بصماتي على رقبته ..
لا شك أن الذاكرة ليست إلا عزاؤنا الوحيد نشيع فيه جثمان من عز علينا فقدانهم و أصبحوا جثثا هامدة في منعطفات الزمان بعد أن قتلتهم الذاكرة متنكرة باسم النسيان، فهنيئا لك با ربيع تلك الجنازة التي سأشيع به جثمانك على طريقتي...
دون تفكير أقوم و أفتح خزانتي.. أختار ثوبا أسود كي ألبسه، وأخرج من المنزل، أذهب إلى نفس المكان الذي رأيتك فيه لأول مرة، اذهب لأتحرش بذاكرتي، لأقيم لك جنازة في قلبي اطلب فيها أن تكفر لي عن جريمة سأقترفها بعد ايام...
كما ذاك اليوم امشي شارة الذهن، حزينة، وحيدة، أتفاجأ بعادل يمشي في جنازة، ثم ارى سمر تقف بعيدة تنظر إلى تلك الجنازة باكية حزينة، أذهب إليها، اقف بجانبها، أحتضنها بحنان، تقترب مني و تقول:- رحمه الله، توفي بعز شبابه...
يزيد بكاؤها و تقول: - رحمك الله يا ربيع..
ابتعد عنها قليلا، اسألها: ربي... ربيع، من ربيع؟
تقول و هي تبكي أكثر: - ربيع ياسين، توفي في عز شبابه...
أبتعد عنها... فبعد أن كنت أواسيها أصبحت اجدر بهذه المواساة، لم أشعر بشيء من حولي، أشعر فقط بهاوية تسحبني للأسفل...
ألم يقل عادل بأن ربيعا قد مات؟ ياالله، هل يموت الميت بعد موته؟ لمذا يا ربيع؟ لماذا قتلت نفسك في مخيلتي؟ لماذا جعلتني أرتبط بغيرك و أنت لا تزال على قيد الحياة...
أنا التي كانت تشعر بخيانتك و انت ميت، فكيف سأشعر بعدما علمت بأنك كنت حي... اه يا ربيع ما أعظمه من ثقل قد أحملتني إياه...
أنا التي جئت طالبة من قلبك السماح... فكيف سيسامحني بعد أن كان حي ينبض، و يرى خيانتي أمامه؟؟
أكنت تدري بأنني قد ارتطبت بآخر؟ أتراك رأيتني معه؟ كم مرة رأيتني فيها برفقته؟ و كم مرة كنت اذبحك فيها في كل مرة تراني فيها معه؟ لكنك لم تكن تعلم بالتأكيد انك انت وحدك الذي سكنت قلبي...
أنت الذي قلت لي دعيني أطبع صورتك الاخيرة في مخيلتي مبتسمة، فطبعت صورتي الاخيرة مع غيرك..
انا التي جئت اليوم لأتحرش بالذاكرة و الماضي، فإذ بالماضي ينبعث أمامي في صورة بشعة يهدي إلي جنازة اكبر من تلك الجنازة التي كنت سأقيمها لك...
شعرت بمقدار خيانتي لك و ببشاعة تلك الجريمة، و لا أدري إن كان ما سأفعله يكفر عن ذنب اقترفته في أحب الناس إلي دون قصد...
الآن.... اخلع خاتم الخطوبة من بنصر يد اليمنى، و أتابع المشي... أسمع أغنية كنت قد حقدت عليك بسببها يوما و ها أنا ابكيك و انا أسمعها..... افتقد اصطدامي لشخص كان هو الاحب.